وثبًا نحو الأحلام
بعد عدة محاولات فاشلة للبحث عن ملابس تلائمها في تلك المحلات التجارية السخيفة.. قررت الجلوس في إحدى الكافيتيريات التي لا تطئها الكثير من الأقدام.. والتي تتميز بإضفاء هالة فيروزية حالمة إلى المكان بدلا من الجو المعتاد لقنوات الأغاني الفضائية..
تبحث بناظريها عن طاولات الأركان وتنتقي أقصرها.. وأبعدها..
تثِبُ وثبتها الاحترافية إلى الكرسي وتجلس ودفترها الصغير ذو النقوش الملونة.. وقلمها الرصاص.. تبحث بعينيها السوداوين عمن يستحق أن تستلهم منه لوحتها الصغيرة هذا اليوم..
تنادي أطول النادلين في المكان وتطلب معكرونة (اسباجيتي) بصوص المشروم مع زيادة أكثر للجبنة.. إنها تحب (الاسباجيتي) كثيرا.. كما تستهويها المبالغة في الأشياء..
في طريقة شديدة الخصوصية لأكلها.. تُبعد الشوكة بشكل ملحوظ عن فمها وتحاول أن تلتقط وحدات (الاسباجيتي) بأسنانها ثم تسحبها بشفتيها في استمتاع طفولي مثير للضحك..
ترقب الكراسي ومن عليها في محاولة لصنع جو حميمي زائف للمكان..
تلمح رجلا يجلس وجهازه (اللاب توب) فقط منهمكا مع أزراره..
تتعجب من اختيار بعض الناس للوحدة.. تفكر أنها لو محلهم لما اختارت الجلوس وحدها في مكان عام.. أبدا..
يجذبها منظر آخر لشاب وفتاة يمارسان طقوس المراهقة الحلوة.. يمسك يدها.. فتخجل..
فيضغط بحنو أكثر فتبتسم.. ويشتركان في الشرب من كوب واحد..
ترقبهما في خبث..
وتحلم..
لكنها لا ترسمهم ..
إنها لا تعلم لماذا لا يلفت نظرها سوى الرجال.. وكأنها تتجنب النظر عمدا إلى كل النساء..
تبحث عن أطولهم قامة وأكبرهم مقاسا للحذاء..
هم فقط من يستهويها أن ترسمهم..
تُنهي تلذذها بصحن المعكرونة وتُلحقه بطلب لمشروبها المفضل (كابوتشينو) بنكهة البندق أو " كابوتشينو هازلنت"..
هكذا تحب أن تقولها بلغة انجليزية أقرب إلى التصنع..
تشُب بجسدها النحيل لتلتقط علبة الفخار المرتب فيها أكياس السكر بشكل طولي مميز..
تفضل السكر البني على السكر الأبيض العادي..تضع كمية كبيرة منه في فنجانها الكبير نسبيا..
أخبرتها أمها ذات يوم أن السكر البني مستخلص من أجود أنواع قصب السكر.. وأكثرهم طولا..
لم تهتم كثيرا بمعرفة صحة المعلومة..
اكتفت بارتشاف فنجان (الكابوتشينو) رويدا رويدا، والانتشاء بتلك النكهة الساحرة للبندق، وبذلك الاحساس الحُلو لشارب من رغوة يكسو شفتيها..
يلمحها هو من فوق كرسيه البعيد.. تتسلل نظرات ضاحكة من خلف نظارته الزجاجية على شاربها الرغوي، و تجذبه طريقتها الغريبة في أكل (الاسباجيتي) .. وحركاتها المشتتة بشكل ملحوظ رغم تركيز قلمها الدائم في دفترها الصغير..
في ذلك الدفتر.. كانت ترسم ظلالا سوداء طويلة لهيئات تحسبها رجالا.. وترسم لها أقداما كبيرة جدا..
كانت تكتفي فقط بالظلال.. والأحذية.. تختلف أشكالا وألوانا.. لكنها تشترك في شيئ واحد..
حجمها الكبير ..
تلاحظ نظراته المتسللة..وتؤكد لنفسها أنها احدى نظرات الاعجاب التي تتمناها من حين لآخر..تفشل في تحديد لون عينيه..
ولكنها تنجح في رسم ظله..
تضع أصابعها الصغيرة بين خصلات شعرها الكستنائي وتنثره بثقة متناهية إلى الهواء.. وتبتسم من كل قلبها..
"عندي ثقة فيك.. عندي أمل فيك.. بيكفي شو بدك مني اكتر بعد فيك.. عندي حلم فيـــــك...."
تشدو فيروز بينهم في الهواء ..فيبتسم إهداءً لها..
تبادله الابتسامة وتزداد انتشاءً..
يُخرج من محفظته الأنيقة ورقة عشوائية صغيرة ويطلب من النادل قلما..
يكتب بعض كلمات.. ويتردد..
يكرمشها ويلتقط غيرها.. ويتردد أيضا..
ينهمك في التفكير ويحاول الاستلهام من تلك الهالة الفيروزية حوله.. ومن عينيها..
يكتب فقط كلمتان " أنتِ حُلمي"..
يرفع رأسه مناديا لنادله الخدوم.. يقول له في همس :
" من فضلك.. ممكن تدي الورقة دي للبنت اللي قاعدة هناك.."
ينظر لإصبعه السبابة ليفاجأ أنه يشير إلى الفراغ..
تنتابه نوبة عصبية مختلطة بجزء من الضيق وجزء من الدهشة..
يقف..
ينظر حوله في كل مكان..
يتلاشى من أمامه حُلما كان يرسمه فوق دفترها..
يضع يديه في جيبيه تعبيرا عن الغضب..
فجأة..
يلمح أمامه ظلا قصيرا.. ويشعر بيد صغيرة تسحبه من بنطاله في حركة طفولية مليقة..
"كم يكره ذلك المزاح السخيف للأطفال"..
يهز قدمه اليسرى بقوة فيلاحظ ازديادا في التمسك.. ينظر إلى الأسفل.. ثم إلى الأسفل جدا..
يُحملق.. يُصعق.. يَرتبك..
ويصمت..
إنها هي..
إنه الحلم.. يتجسد في ذلك الوجه الناعم..وذلك الشعر الكستنائي..
وجسد طفلة...
تصيبه الصدمة بحالة ذهول لحظية لا ينبت خلالها ببنت شفة.. يسمع صوتا خافتا جدا يصله صداه من الأسفل..
يضطر إلى الإنحناء كثيرا ليسمعه..
- ممكن تشيلني؟؟
- نعم !!!
- شيلني عايزة أقولك حاجة..
حملها طويل القامة كما يحمل بنات أخواته الصغيرات..
قربت ثغرها الصغير من أذنه وهمست في خبث وتحدي:
" حتى الأقزام يا عزيزي يستطيعون الوَثب إلى الأحلام"..