منذ نعومة أظافرها.. تعلمت كيف تعتلي جبال الحزن.. لتقترب من السماء وتلامس بإصبع من نور.. شعاع الفرح..
تعلمت كيف تنقل عدوى السعادة لكل من حولها.. فلطالما كانت أكثر أصدقائها ذكاء وحيوية ومرح.. كانت أكثرهم اجتماعية وقدرة على اجتذاب من حولها..
تعلمت كيف تحب.. وتنجح.. وتفرح.. تعلمت كيف تعيش الحياة بطريقتها..
لكنها لم تتعلم يوما كيف تعيش..
بنصف وجه...
**************
على كرسي ملاصق لنافذة القطار.. تجلس سلمى.. تلتصق بالنافذة التصاقا ملحوظا.. كأنها تهرع إليها من العالم في الطرف الآخر..
شعرها المنسدل يغطي نصف وجهها الأيمن.. نظرتها دوما للأرض.. أو للنافذة..
يطلب منها أحدهم تبديل الكراسي ليجلس بجانب زوجته..
ترفض باعتذار وخجل.. ينظر إليها بوجه عابس..
لكنه لا يطيل النظر...
قرصٌ دامي يهرب من الأفق إلى صفحة مياه النيل.. يقبلها.. ويستهويه طراوتها...
تراه من النافذة وتتمنى لو أنها مكانه..
تفيق من شرودها على صوت (الكمسري) يطلب فحص التذاكر..
تعطيه التذكرة بأطراف أصابعها دون أن تنظر إلى وجهه.. يتعجب من عجرفتها.. فيمنحها ملامح صارمة.. وينظر إليها بوجه عابس..
لكنه لا يطيل النظر..
مساحات خضراء امتدادها أقصى من امتداد البصر..
إلى ذلك البراح الذي يتحرك أمامها عبر النافذة.. تطيل سلمى النظر..
تتمنى أن تقفز وتلعب بين العشب.. والذرة.. والطلمبات.. وشجر التوت..
تتخيل نفسها شجرة توت..
يريحها ذلك الإحساس بالإتساع..
صوت دافئ يأتيها من اليسار.. يأخذها من ذلك العالم الأخضر.. ومن ذلك البراح..
- (لو سمحتي.. الكرسي اللي جنب حضرتك فاضي؟؟)
- تومئ برأسها موافقة..
- (طيب ممكن أقعد لو سمحتي؟؟)
- تكرر الإيماءة
ترمقه بطرف عينها اليسرى.. نظراته إليها تقلقها..
تزعجها.. ولا تزعجها.. حزن وضيق يحتل جزءا من نفسها..
كم رآها جميلة..
رغم أنه لم يرى سوى نصف وجهها الأيسر لشدة انحنائها يمينا نحو النافذة..
بياض وضاء.. عين كعيون المهر.. شعر يكاد سواده يحتل كيانه.. ويحتل العالم..
كم رآها جميلة..
ظل لدقائق يتأمل ذلك النصف القريب من وجهها.. ويسبح الخلاق..
حاول بأدب أن يتجاذب معها أطراف الحديث..
- (هو حضرتك نازلة فين؟)
اقشعر جسدها من بغتة السؤال رغم طبيعته.. وردت بصوت خافت جدا..
- (اسكندرية)
اقتطب حاجباه من اختصار الرد.. وخشي أن يظهر بمظهر الفضولي المتطفل..
ولكنه من فرط اعجابه قرر ألا يستسلم.. لقد انجذب إليها حقا.. وفي دقائق قليلة..
تخيل بيتا.. وولدا.. وحياة..
وسألها بمباشرة تثير التعجب..
- (هو حضرتك مرتبطة؟؟)
بركان..
بركان اجتاح كل جسدها ونفسها في تلك اللحظة..
بركان لم يعلم أسباب ومواقيت انفجاره سواها..
من فيض الارتباك.. سقط (الموبايل) من يدها.. ومن فيض الارتباك انحنت لتلتقطه..
وانحنى بدوره إلى الأرض ليناولها إياه..
وتقابل الوجهان..
أخيرا.. رأى نصف وجهها المجهول..
في لحظة توقفت فيها عقارب الزمن..
بُهت الوسيم..
" حين تباغتك الصدمة.. تختلف ردود الأفعال باختلاف الأشخاص.. ونوع الصدمة.. "
بوجه تغزوه ملامح الدهشة والارتباك.. ولمدة سبع ثوان.. نظر الوسيم إليها..
لكنه.. للأسف..
لم يطل النظر..
كم تألمت..
بعد نظرة شبه يائسة إلى الأرض.. رفعت جسدها المحني.. وأعادت جلستها إلى سابق عهدها..
وأعادت نظرتها إلى النافذة.. إلى البراح..
ولكنه هذه المرة أشعرها بالاختناق..
تتذكر.. وتبكي...
مرت سنة على تلك الحادثة المشؤومة..
مازالت صورة ذلك المجنون تلاحقها أينما ذهبت..
في شارع شبه هادئ.. يجلس رجل بدين ذو رائحة كريهة..وشعر كث كثيف منظره يؤكد أنه يكتظ بالحشرات.. يطلقه ولحيته للهواء.. حافي القدمين..
يرتدي من الملابس ما يكشف أكثر مما يستر..
يستند على جذع شجرة وحيدة.. ويمسك بكلتا يديه زجاجة صغيرة..
عيناه لا تخبر سوى شيئ واحد.. ( أنا أكره الدنيا)...
فجأة..
وقف البدين وقفة عصماء للسماء..
احساسٌ حارق يطفئ ضحكتها إلى الأبد..
صدمة..
ألم يفوق كل أشكال الألم..
فعرفت ما بداخل الزجاجة...
(مية نار)..
ألقاها المجنون عشوائيا في الهواء.. في لحظة ازداد فيها نقمه على الدنيا..
أو أنها لحظة من ترتيب القدر.. لتعيش ما تبقى من عمرها..
بوجه نصف محترق...
**************
( علاجها صعب أوي.. وهياخد وقت طويل..
عمليات التجميل مش هترجعها زي الأول..)
هكذا تذكرت نبرة الطبيب وهو يخبرها بأنه حرق من الدرجة الثالثة..
ابتسامة ساخرة كبيرة.. تتلقفها النافذة.. ويتلقفها بدوره القدر...
مأذنة طويلة تعلو جامعا صغيرا في وسط اللوحة الخضراء..
تراها سلمى بوضوح حين يهدئ القطار من سرعته.. تتذكر كلمات أمها بأن الدعوة في السفر مستجابة.. تفكر كثيرا..
بماذا تدعو الله!!
إنها تحبه.. ترضى بأقداره.. وتعلم جليا أنه سيكرمها في النهاية..
ولكن بماذا تدعوه!! ماذا تتمنى!!
وبعد نظرة طويلة للسماء.. وتفكير..
لم تتمنى عودة الأصدقاء..
لقد خجلوا يوما من السير بجوار فتاة.. بوجه نصف محترق..
لم تتمنى زوجا يُقبل خدها الأيسر..
ويضع وجهه في الأرض كلما مر بنصفها الأيمن..
لم تتمنى أن تزول الغصة من قلب أبويها..
لعلمها بصعوبة الأمنية..
لم تتمنى أشياء كثيرة.. كانت من حقها منذ سنة مضت..
ولم تتمنى تغيير القدر..
لكنها تمنت في قرارة نفسها.. لو أن أحدا فقط..
فقط..
أطال النظر....